الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال النسفي: {ولمّا جاء موسى لميقاتنا}.لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا.ومعنى اللام الاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا {وكلّمه ربّه} بلا واسطة ولا كيفية.وروي أنه كان يسمع الكلام من كل جهة.وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتًا دالًا على كلام الله تعالى، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتًا تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسبًا لأحد من الخلق، وغيره يسمع صوتًا مكتسبًا للعباد فيفهم منه كلام الله تعالى، فلما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية بقوله: {قال ربّ أرني أنظر إليك} ثاني مفعولي {أرني} محذوف أي أرني ذاتك أنظر إليك يعني مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك {أرني} مكي.وبكسر الراء مختلسة: أبو عمرو، وبكسر الراء مشبعة: غيرهما وهو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر {قال لن تراني} بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية، وهو دليل لنا أيضر لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفيًا للجواز، ولو لم يكن مرئيًا لأخبر به بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه} بقي على حاله {فسوف ترياني} وهو دليل لنا أيضًا لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه، والدليل على أنه ممكن قوله: {جعله دكًا} ولم يقل اندك وما أوجده تعالى كان جائزًا أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله، ولأنه تعالى ما أيأسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ولو كان ذلك محالًا لعاتبه كما عاتب نوحًا عليه السلام بقوله: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق.{فلمّا تجلى ربّه للجبل} أي ظهر وبان ظهورًا بلا كيف.قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلمًا ورؤية حتى رأى ربه، وهذا نص في إثبات كونه مرئيًا، وبهذه الوجزة يتبين جهل منكري الرؤية وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالمًا بأنه لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره} [البقرة: 55] فلطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي باطل إذ لو كان كما زعموا لقال أرهم ينظروا إليك ثم يقول له: لن يروني.ولأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سماعه لما فيه من التقرير على الكفر، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره، ألا ترى أنهم لما قالوا له {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة} لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله: {إنكم قوم تجهلون} {جعله دكًّا} مدكوكًا مصدر بمصدر بمعنى المفعول كضرب الأمير والدق والدك أخوان.{دكاء}: حمزة وعلي.أي مستوية بالأرض لا أكمة فيها وناقة دكاء لا سنام لها {وخرّ موسى صعقًا} حال أي سقط مغشيًا عليه {فلمّا أفاق} من صعقته {قال سبحانك تبت إليك} من السؤال في الدنيا {وأنا أوّل المؤمنين} بعظمتك وجلالك، وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها.وقال الكعبي والأصم: معنى قوله: {أرني أنظر إليك} أرني آية أعلمك بها بطريق الضرورة كأني أنظر إليك {لن تراني} لن تطيق معرفتي بهذه الصفة {ولكن انظر إلى الجبل} فإني أظهر له آية، فإن ثبت الجبل لتجليها و{استقر مكانه} فسوف تثبت لها وتطيقها.وهذا فاسد لأنه قال: {أرني أنظر إليك} ولم يقل إليها وقال: {لن تراني} ولم يقل لن ترى آيتي وكيف يكون معناه لن ترى آيتي وقد أراه أعظم الآيات حيث جعل الجبل دكًا.{قَالَ يا موسى إِنَّي اصْطَفيْتُكَ عَلَى النَّاس} اخترتك على أهل زمانك {برسالتي} هي أسفار التوراة {برسالتي}: حجازي {وبكلامي} وبتكليمي إياك {فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ} أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُن مِّنَ الشاكرين} على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم.قيل: خر موسى صعقًا يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم النحر.ولما كان هارون وزيرًا وتابعًا لموسى تخصص الاصطفاء بموسى عليه السلام.{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح} الألواح التوراة جمع لوح وكانت عشرة ألواح.وقيل: سبعة وكانت من زمرد.وقيل: من خشب نزلت من السماء فيها التوراة {مِن كُلَّ شَيْءٍ} في محل النصب على أنه مفعول {كتبنا} {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام.وقيل: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعبر لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى {فَخُذْهَا} فقلنا له خذها عطفًا على {كتبنا} والضمير للألواح أو {لكل شيء} لأنه في معنى الأشياء {بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} أي فيها ما هو حسن وأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55].{سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} دَارَ فرعون وقومه وهي مصر، ومنازل عاد وثمود والقرون المهلكة كيف أقفرت منهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم أو جهنم {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} عن فهمها.قال ذو النون قدس الله روحه: أبى الله أن يكرم قلوب الباطلين بمكنون حكمة القرآن {الَّذِينَ يَتكَبَّرُونَ} يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق.وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته {فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو حال أي يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده {وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ} من الآيات المنزلة عليهم {لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} طريق صلاح الأمر وطريق الهدى.{الرَّشد}: حمزة وعلي.وهما كالسقم والسقم {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} ومحل {ذلك} الرفع أي ذلك الصرف {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بآياتنا} بسب تكذيبهم {وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} غفلة عناد واعراض لا غفلة سهو وجهل {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا وَلِقَاءِ الآخِرةِ} هو من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها {حَبِطَتْ أعمالهم} خبر {والذين} {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهو تكذيب الأحوال بتكذيب الإرسال. اهـ..قال القاضي البيضاوي: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً} ذا القعدة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب {ووعدنا}. {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذي الحجة. {فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} بالغًا أربعين. روي: أنه عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرًا. وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها. {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هارون اخلفنى في قَوْمِى} كن خليفتي فيهم. {وَأَصْلَحَ} ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحًا. {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} ولا تتبع من سلك الإِفساد ولا تطع من دعاك إليه.{وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} لوقتنا الذي وقتناه، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا. {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من غير وسيط كما يكلم الملائكة، وفيما روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين. {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك. وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى: {لَن تَرَانِى} دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليَّ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: {اجعل لَّنَا إلها} ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإِخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدًا وأن لا يراه غيره أصلًا فضلًا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية. {قَالَ لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضًا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن، والجبل قيل هو جبل زبير. {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره. وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه. {جَعَلَهُ دَكّا} مدكوكًا مفتتًا والدك والدق أخوان كالشك والشق، وقرأ حمزة والكسائي {دكاء} أي أرضًا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها. وقرئ {دَكًّا} أي قطعًا جمع دكاء. {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} مغشيًا عليه من هول ما رأى. {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ} تعظيمًا لما رأى. {سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ} من الجراءة والإِقدام على السؤال من غير إذن. {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} مر تفسيره. وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا.{قَالَ يَا موسى إِنّى اصطفيتك} اخترتك. {عَلَى الناس} أي الموجودين في زمانك، وهارون وإن كان نبيًا كان مأمورًا باتباعه ولم يكن كليمًا ولا صاحب شرع. {برسالاتي} يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع {برسالتي}. {وبكلامي} وبتكليمي إياك. {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} أعطيتك من الرسالة. {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} على النعمة فيه. روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر.{وَكَتَبْنَا لَهُ في الألواح مِن كُلّ شَيْء} مما يحتاجون إليه من أمر الدين. {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء} بدل من الجار والمجرور، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام. واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة، وكانت من زمرد أو زبرجد، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها. {فَخُذْهَا} على إضمار القول عطفًا على كتبنا أو بدل من قوله: {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات. {بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة. {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره، ويجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقًا لا بالإضافة، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء. {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها، أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم. وقرئ {سأوريكم} بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند وسأورثكم، ويؤيده قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم} {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} المنصوبة في الآفاق والأنفس. {الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض} بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقيل سأصرفهم عن ابطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم. {بِغَيْرِ الحق} صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله. {وَإِنْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ} منزلَة أو معجزة. {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول.{وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} لاستيلاء الشيطنة عليهم. وقرأ حمزة والكسائي {الرَّشَد} بفتحتين وقرئ {الرشاد} وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام، {وَإِنْ يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما.{والذين كَذَّبُواْ بآياتنا وَلِقَاء الآخرة} أي ولقائهم الدار الآخرة، أو ما وعد الله في الدار الآخرة. {حَبِطَتْ أعمالهم} لا ينتفعون بها. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلا جزاء أعمالهم. اهـ.
|